لم يفكر ترامب خارج الصندق بل استدعى قعره العفن

تدرج المشروع الصهيوني في فلسطين عبر مراحل رسمت مسبقا هي مرحلة الاستيطان بصور ناعمة قبل وعد بلفور ثم وعد بلفور والانتداب البريطاني في فلسطين ثم استخدام البطش والترهيب بالمذابح لتهجير الفلسطينيين من أرضهم ثم أعلان قيام الدولة الصهيونية عام 1948 وانتهاج مسارين لتعزيز وجودها ؛ مسار دبلوماسي مخادع بإعلان الأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين بين دولتنين ؛ واحدة لليهود وأخرى للفلسطينيين؛ ومسار تهويد فلسطين وتعزيز وجود وقوة الدولة الصهيونية مع الإبقاء على فكرة وحتمية تهجير الفلسطينيين جماعيا إلى الأردن والعالم ثم فرض دمج الكيان الصهيوني في المنظومات الإقليمية والقارية عبر سلام مزيف.
منحنى الأحداث تسارع بعد نكسة 1967 حين هيمن الكيان الصهيوني على كامل الضفة وغزة وسيناء وأراض سورية ولبنانية لتبدأ مراحل متقدمة من المشروع الصهيوني
ولم يكن منعطف كامب ديفد ثم منعطف أوسلو إلا منعطفات تكتيكية لتلابيب ؛ فككت بها حواضن المقاومة الفلسطينية وفرقتها لاختزال مراحل صهينة فلسطين ومحيطها العربي المسلم.
استمتعت تلابيب وحواضنها الغربية برهة من الزمن بتحقيق أهداف كبرى هي وجود الكيان ثم تفقوه العسكري ثم انطلاق مرحلة دمجه في المنظومات العربية والقارية ؛ وتقرر في العقل السياسي الصهيوني أن المشروع بلغ الأشد ونجح في تحقيق اختراقات بكل اتجاه وعليهم في تلابيب بدء تصفية نضال فتح بعد تحيلها لسلطة تحت احتلالهم ؛ فتمت تصفية الرئيس عرفات وتصنيع خلف مناسب له هو عباس.
لكن حركة وليدة عام 1988 بقيادة رجل معاق جسديا وقلة من المؤمنين بالقضية بدأت تبرز ؛ حركة بثت الروح في دم الاقصى وفلسطين ؛ هي حركة حماس وجناحها المسلح القسامي ؛ وكان الكيان واثقا من قدرته على تصفية حماس عبر قطع مددها الخليجي والعربي ؛ فأرغمت تلابيب دولا خليجية ومصر على شيطنة حماس ؛ وجاء الربيع العربي ليعمق الشرخ بين أنظمة عربية مركزية وجماعة الإخوان المسلمين ؛ لتنفث تلابيب وواشنطن سمومهما في أتون صدام النظام العربي مع التيار الإسلامي السياسي كما فعلت قديما مع كل الحركات السياسية المؤدلجة؛ فقد أوقدت نار الكراهية بين دول الخليج وعبد الناصر ومع البعثيين واحتضنت التيار الإسلامي بشقيه السلفي المقاتل والإخواني السياسي ؛ ثم دارت عجلة الفتنة حسب هوى الصهاينة ليصطدم النظام العربي بالسلفية “المجاهدة” سابقا في أفغانستان برعاية امريكا والنظام الغربي نفسه ثم الصدام مع الإخوان!
واندفع النظام العربي أو أغلبيته في تلك المعركة التي لاجدوى منها للأمة مطلقا.
لم يبق أمام حماس المجاهدة في فلسطين إلا تحالف تكتيكي مع ايران التي تبحث بدورها عن ورقة تضغط بها على الغرب لصناعة مصالحها.
وجاء تطور تقنيات المقذوفات والمسيرات والضغط الشديد على غزة كعوامل صناعة المعجزة ؛ فغزة المحاصرة 14عاما وبعد خوض حروب عديدة مباشرة مع الصهاينة ؛ أطلقت هجومها الصادم والمدمر حقيقة لكل مراحل المشروع الصهيوني التي أنجزت.
صحيح أن غزة خسرت عمرانها وخسرت قرابة 200ألف شهيد وجريح ؛ لكنها شطبت كل المراحل التي قطعها الكيان طيلة قرن ؛ من مراحل ماقبل إعلان الكيان إلى اليوم.
الكيان مهدد وجوديا ؛ وتفوقه العسكري وردعه سقطا مع فجر السابع اكتوبر 2023؛ واندماجه في المنظومات العربية والإقليمية شروطه صارت أصعب على الكيان ومنها قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وتمت العودة لأصل الصراع .
فكلما يعاد استدعاؤه اليوم من عقد وحلول ليست من خارج الصندوق بل من قعره العفن في خمسسنات وستينات القرن الماضي.
حل الدولتين المطروح عربيا وعالميا كان مطروحا قبل 65عاما
وتهجير الفلسطينيين من غزة كان مطروحا قبل 55 عاما ؛ فترامب ذهب مع الجميع إلى قعر الصندوق وليس خارجه كما يدعي.
الجديد في المشهد بالشرق الأوسط ؛ هون أن الفلسطينيين في غزة نجحوا في تصفير عدادات الصهيونية وحدهم ؛ فعلوها وبغداد والقاهرة أسيرتان في يد الروم والفرس ودمشق تحت مطارق الهدم وليبيا ممزقة والسودان ؛ وفي هذا رسالة واضحة للصهيونية في تلابيب وواشنطن ؛ رسالة تقول لاحل في فلسطين إلا مع الفلسطينيين أنفسهم ؛ وكلما مأ أنفقه الغرب في تدمير دول عربية كبرى والهيمنة على أخرى لم يضعف روح المقامة الفلسطينية ولا قدرتها على التصدي وحدها للمشروع الصهيوني رغم حرب الإبادة الشاملة بالقنابل الآمريكية والجوع والتشريد.
إن كل هذه الزوبعة التي يطلقها ترامب ونتن ياهو وبن غفير وغيرهم هي للتغطية على الهزيمة الاستراتيجية للمشروع الصهيوني بعد كلما أنفق عليه من ترليونات وما وضع من خطط تدمير ومكر بالعرب.
لقد أعلنت تلابيب في أول أسبوع طوفان أقصى عن عجزها عن الدفاع عن ذاتها فهبت أساطيل امريكا لحمايتها
لكن كل ذلك لم يصنع إلا هزيمة الكيان الاستراتيجية؛ وخسارته العالمية سياسيا وأخلاقيا.
كما أن ضغط واشنطن على بعض الأنظمة العربية لدعم المشروع الصهيوني أوهن تلك الأنظمة وكشف ظهرها ؛ فلقد دارت شعوبها مع الحق الفلسطيني وارتفعت مؤشرات كراهيتها لأنظمتها ؛ والمزيد من الضغط على تلك الأنظمة قد يغرضها للسقوط المدوي فتفقد واشنطن رأس الخيط في الشرق الأوسط لمدة قد تطول.
ولقد كانت مواجهة امريكا وحلفها مع الحوثيين وإمدادها لتلابييب ب100مليون طن من قنابلها ألقتها على غزة ؛ فضيحة مدوية لأقوى دولة بالعالم جريمة أخلاقية ما بعدها جريمة وهزيمة نكراء ؛ فكيف لم تنجح امريكا في القضاء على التهديد الحوثي بالممرات المائية حول اليمن وكيف لم تهزم حماس رغم الفرق الشاسع في ميزان القوة.
لقد تعرت آمريكا إلى أبعد الحدود في طوفان الأقصى وبدت كقوة همجية بلاقيم ولا مبادئ إنسانية

لعبتهم ستتنوع بمزيد من الضغط عبر مراحل المفاوضات المتعلقة بوقف إطلاق النار بغزة وعبر ملف إعمار غزة ودعمها الإنساني ؛ لكن كل ذلك سيخسرون فيه كما خسروا كل تكتيكاتهم ومؤامراتهم في مراحل إيجاد الكيان وتفوقه ودمجه بالمنطقة.
وعلى الباغي تدور الدوائر
والمجد والخلود لشهداء فلسطين الأبرار
ولاعزاء للصهاينة العرب

نخبة موريتانيا
بقلم: الكاتب والباحث الاستراتيجي عبد الله ولد بونا
6فبراير 2025

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً