في حضرة النور: موريتانيا تستقبل الخليفة العام للطريقة القادرية في مشهد مهيب
في صباح مشرق بنفحات الروح وصفاء القلب، حط ركب الخليفة العام للطريقة القادرية في غرب إفريقيا، فضيلة الشيخ عبد العزيز بن الشيخ آياه، رحاله في العاصمة الروحية للطريقة، النمجاط، قادمًا من جولة مباركة قادته عبر ربوع السنغال، حيث خطت خطاه على دروب المحبة وأرض التصوف، محفوفًا بالقلوب المؤمنة والأرواح الظامئة لنور الهداية.
لقد كانت جولةً استثنائية بكل المقاييس، امتدت لأسابيع شهدت خلالها مدن وقرى السنغال لوحاتٍ من الإيمان والعشق الصوفي. ففي كرمسين واحسي الجدعة، ارتسمت مشاهد المودة الصادقة، حيث اصطف الرجال والنساء، الشيوخ والشباب، في طوابير امتدت بامتداد الأفق، يهتفون بالولاء ويترنمون بأناشيد المحبة، لتتجلى في تلك اللحظات عظمة الروابط الروحية التي نسجتها الطريقة القادرية عبر قرون من السلوك والتزكية.
أما في تكنت، فقد كان الاستقبال أسطورياً يتجاوز حدود الكلمات. آلاف المريدين والمحبين تدفقوا من كل صوب وحدب، وجوههم تشع بنور السكينة وقلوبهم تنبض بحب الشيخ، في مشهد تمازجت فيه دموع الفرح بوهج الإيمان، ليبقى شاهدًا على عمق العلاقة بين الخليفة وأتباعه، علاقة تتجاوز الأجساد لتستوطن الأرواح.
وعندما بلغ الركب المبارك أرض النمجاط، تلك البقعة التي أضحت منارةً للإشعاع الروحي ومهدًا لتراث الطريقة القادرية، كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحًا. غير أن الطرقات قد امتلأت بالحشود منذ أول خيوط الفجر. عشرة كيلومترات من المسافات تزينت بأفواج المستقبلين، مئات السيارات والجمال وآلاف المشاة، تكتظ بهم السهول وتردد الأودية صدى هتافاتهم.
ارتفعت أصوات التكبير والتهليل، وتعالت الزغاريد التي مزجت بين الفرح الروحي والاحتفاء الشعبي، فيما اخترقت طلقات البارود سماء المكان في مشهد يعيد إلى الأذهان ذكريات الفتوحات وأيام العز التي كان فيها التصوف القادري عنوانًا للسلام والتسامح.
لم يكن هذا الاستقبال مجرد حدث عابر، بل كان تجليًا لمكانة روحية عميقة، تعبّر عن ارتباطٍ وثيق لا تحده حدود الجغرافيا ولا تقيده اعتبارات الزمان. إنه الحضور الذي يعكس بوضوح كيف ظلّت الطريقة القادرية مدرسةً للإيمان والتربية، تزرع في قلوب مريديها قيم التسامح والمحبة والتجرد لله.
لقد جسدت هذه العودة المباركة تجدد العهد بين فضيلة الشيخ عبد العزيز وأتباعه، على المضي قدمًا في درب السالكين، طريق الحق والصفاء، حيث لا صوت يعلو فوق صوت الذكر، ولا همّ يغلب على همّ السعي لمرضاة الله. فالتصوف هنا ليس مجرد طقوسٍ أو شعارات، بل هو حياة كاملة، تنسج خيوطها من الإخلاص والتجرد، وترتوي من ينابيع الصدق والمحبة الخالصة.
وهكذا، تظل الطريقة القادرية أكثر من مجرد طريقة صوفية؛ إنها رسالة، ونورٌ يهتدي به السالكون في ظلمات الحياة، وعهدٌ روحي يتجدد مع كل جيل، يذكّرهم بأن سرّ القرب من الله يكمن في نقاء القلوب وصفاء السرائر.
لقد كان يوم وصول الشيخ عبد العزيز بن الشيخ آياه يومًا من أيام الله، يومًا كتب فيه المحبون ملحمة جديدة من الوفاء والانتماء، ليظل التصوف القادري شعلةً لا تنطفئ، ورايةً ترفرف في سماء السلم والصفاء إلى أبد الآبدين.