العزاء في موريتانيا من المواساة إلى المظاهر/احمد خطري
شهدت ممارسات التعزية في موريتانيا في السنوات الأخيرة تحولًا ملحوظًا، انحرف في كثير من الأحيان عن جوهر التعزية كما أقرّته الشريعة الإسلامية، ليأخذ طابعًا اجتماعيًا مثقلًا بالمظاهر والتقاليد الدخيلة، وهو ما يستدعي وقفة تأمل ومراجعة.
أولًا: التعزية في الإسلام.. بساطة ومواساة
في تعاليم الإسلام، تُبنى التعزية على التخفيف عن أهل المصاب، بالدعاء لهم وتذكيرهم بالصبر والثواب، دون تحميلهم أعباء إضافية. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “اصنعوا لآل جعفر طعامًا فقد أتاهم ما يشغلهم”. فالسنة أن يُقدم الدعم لأهل الميت لا أن يُطلب منهم إكرام الزوار وإعداد الولائم.
لقد كانت المجالس الإسلامية في العزاء مجالًا للذكر والدعاء وتذكر الآخرة، لا للتفاخر أو التباهي.
ثانيًا: تحوّلات مستحدثة ومظاهر غريبة
لكن الواقع الحالي يُظهر تحولًا تدريجيًا نحو ممارسات بعيدة عن جوهر الدين:
من العزاء إلى المناسبة الاجتماعية: حيث باتت بعض المجالس ساحة لتبادل النكات والضحك والحكايات، وفقدت المناسبة طابعها التأملي والروحاني.
مظاهر البذخ والإرهاق المالي: من تقديم الذبائح الغالية (النحائر) إلى الموائد العامرة، تتحمل الأسرة الثكلى عبئًا ماديًا كبيرًا لا طائل منه.
تقاليد لا أصل لها: مثل الاقتصار على “ثلاثة أيام” للعزاء، أو إصدار بيانات شكر في الصحف باسم أهل الميت، بينما الأصل أن يُعزي الناس ويحتسبوا الأجر، لا أن يُطالبوا بالعرفان العلني.
ثالثًا: أبعاد ثقافية ودينية مقلقة
تُثير هذه التحولات عدة مخاطر:
طمس هيبة الموت: حيث يتحول مشهد الفقد من لحظة تفكر وخشوع إلى ما يُشبه حفلة علاقات عامة.
التقليد دون تمحيص: إذ تُستورد بعض السلوكيات من مجتمعات أخرى دون النظر لملاءمتها للدين أو الواقع.
مخالفة مبدأ الوسطية: بما في ذلك التبذير المحرم، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ [الأعراف: 31].
رابعًا: كيف نعود إلى الأصل؟
بالتوجيه الديني: عبر دور العلماء والأئمة في إرشاد الناس لما فيه رضا الله وصالح المجتمع.
برفض الضغوط الاجتماعية: التي تدفع الأسر إلى مظاهر لا تُطيقها، ولا تمتّ للدين بصلة.
بإحياء السنة المهجورة: من تقديم الطعام لأهل الميت، إلى الاقتصار على المواساة والدعاء.
ختامًا: نحو عزاء يرضي الله
التحول في العادات ليس مرفوضًا مطلقًا، إذا كان يعيد الأمور إلى نصابها الشرعي. لكن الخطورة تكمن حين تُفرّغ الممارسات الدينية من معناها، وتُلبس لبوس العادة أو التقاليد البالية. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد” (متفق عليه).
إن المطلوب اليوم من المجتمع الموريتاني – كما سائر المجتمعات الإسلامية – أن يسترجع روح التعزية: بساطة، دعاء، ومواساة، بعيدًا عن التكلف، ليكون العزاء رحمة لا عبئًا، وذكرى صالحة لا مناسبة مستنسخة.