خطاب معالي وزير الثقافة والفنون والاتصال والعلاقات مع البرلمان في افتتاح النسخة الثالثة عشرة من مهرجان مدائن التراث
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على نبيه الكريم
•فخامة رئيس الجمهورية؛
•السيد زعيم مؤسسة المعارضة الديمقراطية؛
•السادة والسيدات الوزراء؛
•السيدة المديرة العامة لليونسكو؛
•السيد المدير العام للأسيسكو؛
•السيد المدير العام للألكسو؛
•السيد رئيس معهد العالم العربي بباريس؛
•السيد والي ولاية آدرار؛
•السيد رئيس جهة آدرار؛
•السيد عمدة بلدية شنقيط؛
•السادة والسيدات أعضاء السلك الدبلوماسي؛
•السادة والسيدات رؤساء الأحزاب السياسية؛
•السادة والسيدات ضيوف مدائن التراث؛
•السادة والسيدات المدعوون؛
•أيها الحضور الكريم؛
تستضيفنا اليوم ثمانية قرون من الحياة والمعرفة والإشعاع؛ ثمانية قروناستطاعت خلالها هذه الحاضرة الهاجعة بعيدا بين التلال والربى أن تكونميسما على كل فضاء الصحراء الكبرى مالئةً للدنيا وشاغلةً للناس؛ تستضيفناالحاضرة التي قال عميد الأدب العربي طه حسين عن واحد من الموسومين بصفتها (العلامة محمد محمود ولد أتلاميد الشنقيطي) قال عنه “كان أولئكالطلبة الكبار يتحدثون بأنهم لم يروا قط ضريبا للشيخ الشنقيطي في حفظاللغة ورواية الحديث سندا ومتنا عن ظهر قلب” وقال عنه الأستاذ أحمد حسنالزيات إنه “آية من آيات الله في حفظ اللغة، والحديث، والشعر، والأخبار،والأمثال، والأنساب، لا يند عن ذهنه من كل أولئك نص، ولا سند، ولا رواية“.
تستضيفنا ثمانية قرون قال الدكتور محيي الدين صابر المدير العام الأسبقللمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم إن أهلها (يقصد الشناقطة؛ أيالموريتانيين عموما) هم “الممثلون الأوفياء للثقافة العربية الإسلامية في نقائهاوأصالتها، وإنهم سدنتها في قاصية ديار الإسلام المرابطون في ثغورهاحفاظا عليها ونشرا لها وإشعاعا بها” تستضيفنا تلك الأيقونة التي قالالأديب العربي الأفريقي الكبير الطيب صالح عن أهلها إنهم سادة الأدبوالشعر.
تستضيفنا هذه الجوهرة التي سحرت الجيولوجي الفرنسي تيودور مونو لينسجمعها علاقة امتدت زهاء ثمانية عقود، وقال عنها -مما قال- إنها ملاذ الصحراءوإنها مكتبة في الهواء الطلق؛ لما تبعث عليه من الهدوء والطمأنينة، ولما تحويمن مخطوطات نفيسة تشهد على قرون من العلم والمعرفة والثقافة.
•فخامة رئيس الجمهورية؛
•أيها الحضور الكريم؛
لم تكن شنقيط، في يوم من الأيام، مجرد مدينة تاريخية؛ بل كانت الأساسوالمرتكز الأبرز لهويتنا، لم تكن مجرد قبس من نور الماضي، إنها قنطرةالتواصل الحي بين أجيالنا وبيننا والعالم، إنها البقاء والتمسك بشغاف المعرفةوالثقافة والتاريخ، إنها رمز مادي ومعنوي لذاتنا الحضارية.
إن هذه المئذنة المتوثبة شموخا في قلب الصحراء بين الكثبان والأودية والهضابتمثل رمزا لعناق حصري بين التاريخ والجغرافيا والثقافة والحضارة؛ إنهااختزال فخم لعلاقتنا الضاربة في الأمد بالمسجد والمحظرة.
وإن شكلها المادي البارز يمزج بين سحناتنا وألواننا وأعراقنا ولغاتنا؛ ففيهاتختلط ملامحنا كلنا؛ فيها تتعانق الأودية والسهول والحجارة والنخيل والشيحوالقيصوم.
•صاحب الفخامة؛
•أيها الجمع الكريم؛
نلتقي اليوم في مدينة شنقيط لازمة العلم والحج والتجارة والسفارة والانفتاحعلى العالم؛ نلتقي فيها لتمنحنا شيئا من بهائها وألقها ولتذكرنا بعزة الإنسانالمفعم بالإرادة والجلد، لتذكرنا بقوتنا وقدرتنا على تجسيد أحلامنا مهما كانتجسامة وضخامة التحديات.
نجتمع بها لنتذاكر معا تلك الطاقة الهائلة التي منحها لقب “الشنقيطي” لصورة بلادنا أمام الآخر؛ لنستذكر من خلالها ذلك اللقب الذي ارتبط بكلأسمائنا ومن كل جهاتنا وأعراقنا حيثما حلوا وأينما ارتحلوا. تهبنا اليومشنقيط، مثلما وهبتنا قبلها وادان وتيشيت وولاتة، جوا ممتلئا لحمة وانسجاماوأريحية.. جوا يعيد لنا ألق تنوعنا وثرائنا وتعايشنا من أيام إمبراطورية غاناوحتى عصر الجمهورية الإسلامية الموريتانية، مرورا بعهد المرابطين؛ حيث آختالدولة بيننا دائما وألَّف الدين بين قلوبنا سرمدا.
•فخامة رئيس الجمهورية؛
•أيها الحضور الكريم؛
تتراءى غير بعيد منا الآن أنقاض مدينة آبير (أو شنقيط الأولى) التي تأسستفي القرن الثاني الهجري وزارها حفيد الصحابي الجليل عقبة بن نافع الفهري(عبد الرحمن بن حبيب) وكانت، حسب المؤرخين والأنتربولوجيين، عامرة بالحياةوالعلم والعلماء قبل ثلاثة عشر قرنا ونيفا من الآن، إنها حكايةٌ موغلة في الزمنورثتها شنقيط؛ بادئة من حيث انتهت علما وحضارة وإشعاعا.
لقد كانت شنقيط الرئة الحية لحواضرنا ومدننا الضاربة في المدنية والزمن؛لذلك اختارها المثقف والمفكر الراحل آمادو مختار أمبو المدير العام الأسبقلمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) رحمات الله على روحه،ليطلق من أمام منارة جامعها العتيق، يوم 16 فبراير ١٩٨١نداءه الشهير لإغاثةمدننا التاريخية؛ ذلك النداء الذي أثمر تصنيف أربعة مدن موريتانية على قائمةاليونسكو للتراث العالمي المادي؛ هي، بالإضافة إلى شنقيط، مدن وادانوتيشيت وولاتة.
تلك المدن التي مثلت مربعنا الحضاري العلمي الثقافي؛ فكانت مضرب المثلفي الإشعاع العلمي والثقافي، والازدهار الاقتصادي والتجاري؛ فعبرهاتواصلت حضارات البحر الأبيض المتوسط مع حضارات الساحل والصحراءوشمال أفريقيا. عبر قوافل العلم والحج والملح أسس الشنقيطيون والوادانيونوالتيشيتيون والولاتيون حضارتهم العلمية والثقافية، وعبرها كانوا جسر التلاقيبين الأندلس وشمال أفريقيا والمشرق العربي.
ما كانت مدينة شنقيط نشازًا في تاريخنا ولا في جغرافيتنا، بل كانت جزءًا مننسيجٍ غنيٍ بالثقافة والتراث؛ حيث تتشارك هذه العراقة والأصالة مع مدن ثلاثهي وادان (واد العلم وواد النخيل) ملتقى طرق الحج والعلم والتجارة، ومدينةشارع الأربعين عالما و“البئر المحصنة” و“الرحبة“.
وتيشيت، توأم وادان، وذات المئذنة الفارعة التي يبلغ طولها 16 مترًا معمكتباتها الأهلية ومخطوطاتها النادرة التي يُقال إنها تزيد على عشرة آلافمخطوط.
وولاتة، مدينة الزخرفة والزركشة التي زارها الرحالة ابن بطوطة في الثلث الأولمن القرن الثامن الهجري وانبهر بازدهارها اللافت. إنه تشابك خيوط التاريخوالجغرافيا، لتروي حكايات مجدٍ وإشعاعٍ ثقافي ما يزال يُثري حاضرنا ويُلهممستقبلنا.
•فخامة رئيس الجمهورية؛
•حضورنا الكريم؛
لقد بهرت حضارة تلك المدن كل الذين عرفوها وكتبوا عنها من مؤرخينومستشرقين؛ حيث رأوا فيها الصحراء الوحيدة التي استطاعت أن تخلق هويةثقافية متكاملة؛ هوية احتضنت كل المعارف المتاحة أيامها؛ من أدب وفقه وتاريخوفلسفة ورياضيات وفلك ولغة.. فكتب عن ذلك المؤرخ أبو عبيد البكري والرحالةابن بطوطة والمستكشف البرتغالي غوميس أيانيس دي آزورارا.. لقد كتبوابنَفَس انبهاري بادٍ للعيان.. لقد كتبوا عن تلك الجامعات (المحاظر) المسافرةدوما على أسنمة العيس، وعن تلك الحاضرة التي احتضنت أربعين فتاة تحفظموطأ الإمام مالك.
•صاحب الفخامة؛
•جمعنا الكريم؛
إن تثمينكم البين لهذا الموروث الثقافي الغني ووعيكم العميق بارتباط مكانتنابذلك التثمين عبّرتم عنه بأكثر من ملمح؛ فوجهتم بالاعتراف باكرا بأدوارومساهمات كل الفاعلين في هذا التاريخ الثقافي؛ من حرفيين وبنّائين وعمالوفقهاء وأدباء؛ إنها اللبنة الأولى –صاحب الفخامة– في صرح العدل والإنصافوالمساواة الذي أسستم له وأرسيتم دعائمه. لقد مثلت تلك الخطوة اعترافاصريحا وكريما لأولئك المنسيين بما قاموا به من أدوار ظلت سنوات طويلة مغيبةومتجاهَلة. إنها رؤيتكم الواعية المبنية على أن الفعل الحضاري يتكامل بالتنوعوالتعدد والتراكم.
وفي ذات السياق وضعتم كذلك، من أجل الحفاظ على هذا الإرث الغنيوتنميته، مقاربة ثقافية–تنموية تتجاوز رؤيتها الاحتفاء بالماضي إلى الاهتمامبالحاضر واستشراف المستقبل؛ كي تظل الحياة سيارةً في حواضر وحواضنذلك الموروث؛ فوجّهتم بتعليماتكم السامية وإشرافكم المباشر –صاحبالفخامة– إلى إضافة مكونة تنموية متعددة القطاعات ل“مهرجان مدائن التراث” من أجل تثبيت الساكنة في هذه المدن؛ مع توفير وسائل العيش الكريم لها.
إن هذا المكون التنموي الذي أضفتموه إلى مدائن التراث، تستفيد منه اليوممدينة شنقيط، على غرار وادان وتيشيت وولاتة وجول، بغلاف مالي وصل إلىأربعة مليارات أوقية قديمة، وفي مجالات عديدة ساهم فيها 19 قطاعا حكوميا، وشملت دعم الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه، ودعم للبنية الصحية والتعليمية، وتشغيل وتكوين وتثبيت للرمال، وافتتاح الإذاعات والمتاحف ومراكز التكوين المهني، ودعم المحاظر والمساجد والتعاونيات النسوية والمشاريع الصغرى، والاتصالات وغيرها من المصالح المرتبطة بتوفير الحياة الكريمة وبخلق فضاء للتنمية.
يضاف إلى ذلك تعبيد الطريق الرابط بين شنقيط وأطار؛ الذي ظل مطلبا ملحا لدى الساكنة من أيام الاستقلال الأولى؛ وها أنتم اليوم تبدؤونه خدمة لوطنكم ووفاء بعهدكم، لأهل شنقيط، في النسخة الماضية، وبتكلفة وصلت 12 مليارأوقية قديمة.
وفي ذات سياق خدمة الثقافة، استحدثتم –صاحب الفخامة– نسخة خامسةلمدائن التراث؛ تمثلت في مهرجان “جول” بولاية “كوركول” الذي تم تنظيمنسخته الأولى في السنة الماضية، ومثل بادرة حسنى للدفع بعجلة التنمية فيضفتنا الجميلة؛ تماما كما مثل سانحة مواتية للكشف عن كنوز حضارتناوثقافتنا الثرية والعريقة المحاذية لضفاف النهر؛ فالأنهار والأودية كانت دومامهدا للحياة والبناء والآثار.
لقد امتازت هذه النسخة من مهرجان مدائن التراث بترفيع بارز للمحتوىالعلمي، وذلك من خلال سلسلة من الندوات والمحاضرات تقدمها نخبة منالدكاترة والمحاضرين والباحثين، وتتناول كل المجالات العلمية والثقافية والتراثيةالمتعلقة بشنقيط؛ بدءا من مكانتها كمركز للعلم والتبادل الحضاري؛ وليسانتهاء بالأفق التنموي بها.
تستعرض هذه المكونة، من بين ما تستعرض، وسائل وآليات حماية التراثالثقافي، إضافة إلى الدور التاريخي للسفارة الثقافية الشنقيطية في المشرق.
كما تشمل البعد الثقافي والتنموي للتجارة عبر الصحراء، وبينها وشمالوجنوب القارة. إضافة إلى نقاشات منهجية علمية حول المحظرة ومناهجهاالعلمية، ودورها في الإشعاع الثقافي الشنقيطي، والإسهامات الثقافيةوالسياسية للمرأة الموريتانية، وفن المدح الشعبي ومزجه بين الأبعاد الروحيةوالأبعاد الترفيهية.
وفي هذه النسخة تمت طباعة ثمانية عناوين موريتانية، سنحتفي بمؤلفيها علىهامش افتتاح المكونة العلمية. كما حرصنا على أرشفة فعاليات هذه النسخة وتوثيقها -ورقيا- وذلك عبر نشرية باسم المهرجان تصدر يوميا.
رغم فضائنا الملتهب مطبات وأزمات، ورغم ما خيم على العالم من كوارث طبيعيةوأخرى من صنع الإنسان.. رغم ذلك كله قُدتم السفينة بسكينة ووقار؛ فسادالأمن وتلاقت القلوب وعمّ الإخاء وارتفع سقف الطموح ديمقراطيا وتنموياوثقافيا؛ وإن جلوسكم اليوم –صاحب الفخامة– في هذا الفضاء المفتوح بينزعيم المعارضة الديمقراطية وأعلى السّلط الثقافية الدولية لهو دليل على نجاحمقاربتكم المتعلقة بالأمن والانفتاح والتنمية. إن هذا الحضور الكيفي البارز يمثل اعترافا صريحا بالجهود المبذولة في سبيل ترقية تراثنا؛ تماما مثلما أنه يمثل شهادة جلية على أمننا واستقرارنا.
في هذا المحيط المضطرب، سياسيا وأمنيا واقتصاديا، كانت رؤيتكم الثقافية،صاحب الفخامة، أقوى وأرسى، وكانت ثمار ذلك بينة غضة طرية؛ ففي السنةالماضية كانت نواكشوط عاصمة للثقافة في العالم الإسلامي، وفي السنةالقادمة، بإذن الله، ستتوج عاصمة للثقافة العربية؛ أما هذه السنة فقد شرُفتبلادنا برئاسة الاتحاد الأفريقي سياسيا وثقافيا واقتصاديا.
وفي إطار الحرية تم تصنيف بلدنا الأول عربيا وإفريقيا (والثالث والثلاثين عالميا) في مجال حرية الصحافة، والعاشرة دوليا في أمن الصحافة.
كما تمكنا بفضل تلك المقاربة الواعية الجادة من تسجيل المحظرة في السنةالماضية على قائمة التراث الإنساني اللامادي لدى اليونسكو، وملحمة صامباغالاديو هذه السنة على ذات القائمة؛ إضافة إلى المصادقة على اللغةالسونوكية كلغة عالمية عابرة للقارات. وتم كذلك تصنيف تسعة مواقع على قائمة التراث الإسلامي، وقبل أيام انطلقت الحفريات من جديد في مرقد الإمامالحضرمي (آزوكي) لاستكشاف المزيد من كنوزنا الأثرية النائمة بين تلك الوهادوالأودية؛ على أن يتوسع المشروع في السنة القادمة ليشمل أودغست وكومبيصالح وآغريجيت وغيرها من مواقعنا المصنفة وطنيا وإسلاميا.
تضمنت نسختنا هذه، كذلك، حزمة من الأماسي الثقافية والأدبية والمديحية،بشقيها الشعري والغنائي، وبكل لغاتنا الوطنية، يحييها لفيف من الأدباءوالفنانين والمداحة.. مصحوبة بعروض مسرحية هادفة وجادة. ويكتمل المشهدبتشكيلة من الفعاليات الثقافية والترفيهية تبرز روعة وجمال تنوعنا الثقافيوثراءه؛ حيث نتوافد من مختلف مناطقنا وجهاتنا، ونتعاطى بكل لغاتناوألسنتنا؛ مما يبعث الطمأنينة بأن خطاب “وادان” خرج نباته طيبا بإذن ربه.
وتُبرهن قوائم المشاركين في نسخة “مدائن التراث” لهذا العام –كما وكيفا– علىمستوى نجاح مقاربتكم الثقافية صاحب الفخامة، تماما مثلما برهن عليهالإقبال الواسع والاهتمام الكبير من لدن الشخصيات الدولية والإقليمية التي شرفتنا في هذه النسخة، وكذلك الشخصيات الموريتانية، على اختلاف مراكزهاوألسنتها وانتماءاتها السياسية.
مرة أخرى؛ مرحبا بكم -فخامة رئيس الجمهورية- وبضيوفكم الكرام، وشكرا لكل الذين ساهموا في هذه الطبعة من مهرجان شنقيط؛ من وزراء وأطر وموظفين ومثقفين ومحاضرين وأدباء وفنانين وعارضين ومتسابقين ومنظمين.. شكرا لكم كلكم، وحللتم أهلا ونزلتم سهلا.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته